عقب اختتام القمة العربية الإسلامية الطارئة في الدوحة وما رافقها من إدانة عربية وإسلامية واسعة غير مسبوقة للعدوان على قطر، يبرز سؤال محوري: ما شكل الرد الحازم والقادر على ردع إسرائيل في ضوء مخرجات القمة؟
يرى خبراء عسكريون وسياسيون، تحدّثوا لصحيفة “الغد”، أن المطلوب هو تجاوز أدوات الرد التقليدية والانتقال إلى مقاربة إعلامية ودبلوماسية متكاملة تُنتج ردعًا نفسيًا وسياسيًا للكيان المحتل، وتقطع الطريق على مشروع “إسرائيل الكبرى” الذي يهدد استقرار الإقليم. فبرغم إدانة القمة للعدوان، يؤكد محللون أن المشهد يستدعي خطوات أكثر جسارة ووضوحًا تتخطى البيانات الإنشائية، عبر ضغط دبلوماسي وإسناد إعلامي سياسي متجدد. ويشدّدون على دمج السياسة والإعلام والدبلوماسية مع جاهزية أمنية أوسع دعماً للقضية الفلسطينية وكبح الاندفاعة الإسرائيلية المزعزِعة للأمن الإقليمي.
مقاربات خارج الصندوق
وانطلاقاً من تأكيدات قمة الدوحة على ضرورة تبنّي رد حاسم وواضح، يشير الخبير العسكري والإستراتيجي د. نضال أبو زيد إلى أن جوهر المقاربة غير التقليدية يكمن في تصعيد اللغة الإعلامية والدبلوماسية معًا، واستحضَر المثال الذي قدّمه وزير الخارجية أيمن الصفدي في مجلس الأمن لدى رده على الشكوى القطرية.
وأكد أبو زيد أن “تشديد اللغة الإعلامية والدبلوماسية لا يعني مجرد رفع الأصوات، بل العمل على تعزيز مشروع إعلامي متكامل يدعم المقاومة، ويكشف حقيقة المشروع الاستعماري الصهيوني، ويضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته تجاه ما يجري على الأرض”.
وأضاف أن “هذا النوع من الدعم الإعلامي يخلق رادعا نفسيا وسياسيا يعوق تقدم الاحتلال ويزيد من تكاليفه، كما يعمل على تقوية الموقف الفلسطيني والإسلامي بشكل عام”. ويرى أن ذلك ينبغي أن يكون جزءًا من إستراتيجية متكاملة تشمل تحركات دبلوماسية وميدانية تحدّ من أثر المشروع الإسرائيلي، معتبرًا أن الرد التقليدي بات غير كافٍ، وأن المطلوب مواقف أكثر وضوحًا وجرأة سياسيًا وإعلاميًا، تعكس تطور المشهد وحجم التحديات.
وجدد قوله إن “المقاومة الإعلامية والسياسية المتجددة تشكل سلاحا فعّالا في مواجهة العدوان الصهيوني، ويجب استثمارها بصورة منهجية ومستمرة لدعم الحقوق الفلسطينية وحماية الأمن القومي للدول العربية والإسلامية”.
ويضيف أن “الطرح الكلاسيكي الذي يتمثل بالمطالبة بموقف عربي موحد، هو خطاب سائد منذ أكثر من 77 عاما، منذ بداية الاحتلال الصهيوني، ولم يسفر يوما عن نتائج عملية تكبح جماح العدوان”.
ويخلص أبو زيد إلى أن الطروحات التقليدية “تم تجاوزها فعليا من قبل الاحتلال الذي لم يعد يعيرها أي اهتمام، مشددا على أن المرحلة الراهنة تتطلب الذهاب إلى مقاربات غير تقليدية، تتجاوز مجرد البيانات والمواقف الرمزية.
وأضاف: “لم نشهد حتى اليوم أي عسكرة للمشروع العربي، أو على الأقل تفعيل أدوات ردع إستراتيجية حقيقية، تشكّل رادعا للعدوان الصهيوني المتكرر، وبالتالي، فإن المراوحة عند الطروحات القديمة لم تعد مجدية، ويجب التفكير بمنظور جديد يلامس واقع التحولات السياسية والعسكرية في الإقليم”.
مؤشرات سبقت القمة
يرى أبو زيد أن البيان الختامي للقمة العربية الإسلامية المشتركة لم يلبِّ سقف تطلعات الشارع العربي، وهي نتيجة كانت متوقعة بالنظر إلى مؤشرات سبقت الانعقاد تُظهر مسعىً أميركيًا واضحًا لكبح أي تصعيد سياسي أو دبلوماسي. وقال: “ما توقعناه قبل عدة أيام تحقق بالفعل؛ إذ ألقت الإدارة الأميركية بكل ثقلها العسكري والسياسي في المنطقة، وهو ما تجلى في زيارة قائد القيادة المركزية الأميركية (السينتكوم) الأدميرال براد كوبر، إضافة إلى زيارة وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو”.
وأضاف أن هذه التحركات أوحت برغبة واشنطن في تخفيف لهجة البيان، وقد تحقق ذلك إلى حد بعيد. وتزامن ذلك مع مؤتمر صحفي مشترك لوزير الخارجية الأميركي ورئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، تميز بتصعيد واضح في النبرة الدبلوماسية الإسرائيلية.
وزاد أن نتنياهو أعاد في أكثر من مرة التركيز على حادثة مقتل المواطن الأميركي اليميني تشارلز كيرك، في إحدى الولايات الأميركية، في محاولة واضحة لربط المصير الأميركي بالمصير الصهيوني، خاصة في ظل تلاقي رؤى الطرفين تجاه مخرجات القمة.
ويقدّر أبو زيد أن الاحتلال قرأ البيان بوصفه “تبريداً دبلوماسياً” لا “تسخيناً”، بما قد يدفعه إلى مزيد من التصعيد الميداني في غزة أو توسيع نطاق تدخلاته الإقليمية، إذ ترك البيان مساحة حركة سياسية وعسكرية واسعة لإسرائيل.
ويمضي إلى تحليل خلفيات محتملة، ملمّحًا إلى مقايضة في الكواليس قد تتيح عودة قطر إلى مسار الوساطة عبر مبادرة وقف إطلاق نار “تكون مقبولة من كافة الأطراف، وتفرض على الكيان”؛ “هذه المبادرة، إن صحّت، ستكون مقابل منح الاحتلال شرعية لضم الضفة الغربية”، ما يعدّ مقايضة خطيرة تُفرغ الملف الفلسطيني من جوهره. ويختتم بأننا إزاء معادلة جديدة تُنقذ إسرائيل من مأزق غزة عبر تسوية تنهي ملف القطاع مقابل إعادة تموضع قطري مدعوم أميركياً وشرعنة خطط الضم—معادلة إن مضت فستعيد تشكيل المشهد السياسي والإقليمي برمّته.
نحو إطار ردع متعدد الأبعاد
من جهته، يرى الخبير الأمني والإستراتيجي د. بشير الدعجة أن كلمات القادة في قمة الدوحة تعكس ضرورة تبنّي موقف عربي–إسلامي موحّد وحازم تجاه التطرف الإسرائيلي والعدوان على غزة والتهديدات التي طالت دولاً أخرى كقطر. ويؤكد أن هذا الاصطفاف يشكّل أساس بناء إستراتيجية رد متماسكة تستند إلى السياسة والأمن والإعلام والدبلوماسية، على نحو مدروس يرفع كلفة أي تصعيد إسرائيلي ويجعل الرد العربي والإسلامي ملموس النتائج.
سياسيًا ودبلوماسيًا، يبرز الدعجة أهمية إظهار وحدة الصف أمام المجتمع الدولي برفض أي اعتداء على المدنيين في غزة أو تهديد أمن الدول الإسلامية، بما فيها قطر، مع تحرّكات فاعلة في أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، واستخدام أدوات الضغط السياسي بما في ذلك تعليق أو تجميد بعض الاتفاقيات الثنائية التي لا تخدم السلام. ويرى أيضًا إمكانية توظيف الضغوط الأميركية الواقعة على بعض الدول لتعزيز الدور الدبلوماسي الإسلامي بدل تبريده.
أمنيًا واستراتيجيًا، يدعو إلى تعزيز الدفاعات الإقليمية وحماية الدول من أي تهديد محتمل، موضحًا أن الردع لا يقتضي الهجوم المباشر، بل امتلاك قدرة ظاهرة على إحباط أي عدوان على الحدود أو المواقع الحيوية. كما يشدد على أدوات غير تقليدية—مثل المعلومات الإستراتيجية والإعلام العسكري—لكشف السياسات الإسرائيلية والتأثير في الروح المعنوية للخصم.
تنسيق استخباراتي وإعلام تعبوي
يشير الدعجة إلى الحاجة الملحّة لتنسيق استخباراتي بين الدول الإسلامية يتيح تبادل المعلومات حول تحرّكات الاحتلال وتعزيز الجاهزية لأي طارئ، مع مراعاة حماية المدنيين واستقرار الإقليم. ويعدّ البعد الإعلامي ركيزة للرد الحاسم، إذ ينبغي أن يعكس الخطاب وحدة وصلابة، ويُطلق حملات مكثفة تكشف الانتهاكات وتدعم غزة وقطر، بما يرفع كلفة العدوان ويحدّ من جدواه الإستراتيجية.
ويخلص إلى أن المزج بين السياسة والأمن والإعلام والدبلوماسية يوفّر إطارًا متكاملاً للردع، وأن الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة تضع الاحتلال في مأزق إستراتيجي يعزله دوليًا ويُقوّي أثر الرد الجماعي. كما يجدد التأكيد على دور قطر كوسيط ناجح وأن حمايتها تمثّل خطًا أحمر، وأن أي ضغط أميركي يمكن استثماره لزيادة فاعلية الاصطفاف الإسلامي.
ويضيف أن الرد الحاسم لا يقتصر على الصدام العسكري، بل هو منظومة متكاملة من السياسة الصارمة والاستعداد الأمني والإعلام الإستراتيجي والضغط الدولي، مؤكدًا أن أي تجاوز سيُواجَه بوحدة لا يمكن التغاضي عنها، وأن استمرار العدوان سيقابل بصلابة ترفع تكلفة التصعيد إلى حد يبدد جدواه. ويرى أن قمة الدوحة لحظة مفصلية عربياً وإسلامياً، إذ تعبّر عن اصطفاف غير مسبوق يعيد رسم خريطة القوة السياسية والأمنية، وقال إن “الموقف العربي والإسلامي الموحد الذي تجلى في القمة لم يكن مجرد بيانات سياسية تقليدية، بل هو انعكاس لوعي إستراتيجي عميق، وقدرة جماعية على اتخاذ مواقف متوازنة، لها أثر مباشر في توجيه مسار الأحداث الإقليمية، وفرض قواعد جديدة للعبة السياسية في الشرق الأوسط”.
أمنيًا وإستراتيجيًا، يرى الدعجة أن الاحتلال يواجه بيئة إقليمية أكثر تعقيدًا تحدّ من قدرته على المناورة المنفردة، وأن أي تحرك إسرائيلي بات مرتبطًا بردّ عربي–إسلامي جماعي نتيجة تصاعد قدرات الرقابة والمواجهة وتوحيد أدوات الضغط السياسية والاقتصادية والدبلوماسية. وأضاف إن “هذا يعني أن أي خطأ صهيوني في الحسابات، أو تجاوز في العمليات، قد يقابل برد فوري منسق، يزيد من تكاليف أي عملية سياسية أو عسكرية”.
ويمتد أثر هذا التحول، بحسبه، على المدى الطويل، إذ يعزز حضور القرار العربي–الإسلامي دوليًا ويُعيد ضبط التوازنات وفق رؤية تتخطى الانقسامات. وتابع: “المشهد الإقليمي لن يكون كما كان سابقا، بل نحن أمام مرحلة جديدة تتسم بصدام واضح بين رغبة بعض الأطراف في الانفراد بالقرار والتحرك الأحادي، وبين قوة التماسك الجماعي العربي والإسلامي”، ما يُلزم الاحتلال بمراجعة حساباته. وأضاف الدعجة: “الوحدة السياسية والأمنية العربية الإسلامية تعد عامل صمود قوي أمام ضغوط دولية عالمية”، مؤكدًا أن قمة الدوحة “ليست مجرد اجتماع سياسي عابر، بل هي نقطة تحول إستراتيجية حقيقية” تُظهر قدرة العرب والمسلمين على فرض قواعد جديدة للتوازن الإقليمي.
إعادة تشكيل المشهد: قراءة نقدية
في المقابل، يقدّم أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الألمانية الأردنية د. بدر الماضي قراءة أكثر تحفظًا، معتبرًا أن الحديث عن “وحدة موقف” خلال القمة قد لا يكون دقيقًا. ويوضح أن ما جرى هو تضامن واسع مع قطر إزاء تهديدات مباشرة أكثر من كونه إستراتيجية عربية جماعية. وأوضح الماضي: “نحن لا نتحدث عن وحدة في الموقف، وعملية التضامن مع ما جرى ضد عاصمة عربية شقيقة لا تعني بالضرورة وحدة الموقف السياسي في العالم العربي، بل تمثل لحظة آنية، وربما مؤقتة، لا تؤسس لقرارات سياسية أو إستراتيجية قادمة، لا في العلاقة مع دولة الكيان، ولا في بناء ضمانات عربية حقيقية تعيد صياغة العلاقات العربية – العربية بما يتيح إنتاج سياسات موحدة”.
ويشدّد على أن الحدث أكبر من مجرّد قمة، إذ جاءت موجة التضامن نتيجة تجاوز الاحتلال للخطوط الحمراء مع تجاهل متزايد للوساطات والعلاقات الإقليمية، ما استدعى هذا التعاطف لكنه غير كافٍ. ويرى أن التحول الجذري لا يُبنى على واقعة واحدة مهما عظمت؛ فـ “إعادة تشكيل المشهد السياسي يحتاج إلى وقت وتراكم في الأحداث والمواقف، لكن الأهم أنه يحتاج إلى إيمان حقيقي وقرار سياسي واضح بضرورة بناء موقف عربي موحد.. وليس المطلوب أن يكون هذا الموقف من كل الدول، بل من مجموعة دول مفتاحية يمكنها أن تشكّل نواة ضغط سياسي حقيقي على الكيان”.
ويتابع الماضي أن البيئة السياسية الراهنة لا تساعد على هذا التوافق، مشيرًا إلى أن أي إعادة تشكيل للمشهد الإقليمي تستلزم بداية الإجابة عن سؤال إستراتيجي: “هل تشكّل إسرائيل، من خلال سلوكها، خطرا وجوديا على الدول العربية وعلى أمن المنطقة؟”
ويخلص إلى أنه “حتى اللحظة، لا أعتقد أن هناك إعادة حقيقية لتشكيل المشهد السياسي الإقليمي.. فالمخاوف مشروعة ومبررة، لكن هذه المخاوف لم تترجم إلى سياسات واضحة وملموسة.. ولذلك، فإن الحديث عن تغيير فعلي في ديناميات الإقليم ما يزال سابقا لأوانه، ما لم يترافق مع مبادرات واضحة من دول عربية معنية مباشرة بما يجري.”
