في أحدث تقرير إقليمي بعنوان “الوظائف والنساء: طاقات غير مستغلة ونمو غير محقق”، يسلّط البنك الدولي الضوء على معضلة مزمنة في الأردن: اقتصاد يواصل مسارًا من النمو المتواضع، لكنه يترك جزءًا كبيرًا من طاقته الإنتاجية خارج سوق العمل. ويرصد التقرير اتجاهاً صعودياً طفيفاً في الناتج المحلي الإجمالي من 2.5% عام 2024 إلى 2.6% عام 2025، مدفوعًا بانتعاش نسبي في الصناعة وعودة قوية للسياحة، من دون أن يواكبه تحسّن مماثل في مشاركة النساء.
يشير التقرير إلى أن التحسّن الاقتصادي لم ينعكس على معدّلات انخراط النساء في سوق العمل، إذ تظل من الأدنى في المنطقة رغم تفوّقهن التعليمي. ويؤكد أن رفع مشاركة النساء يمكن أن يزيد نصيب الفرد من الناتج المحلي في دول عدّة بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما فيها الأردن، حتى 30%—وهي مكاسب “معلّقة” لا نظير لها في أي منطقة أخرى.
فجوة المؤهلات وسوق العمل
يصنّف التقرير الأردن بين الاقتصادات العربية التي تمتلك نساءً مؤهلات لا يجدن المسارات المناسبة للاندماج الاقتصادي. فبينما تُظهر البيانات تقدّمًا في التحصيل الأكاديمي للنساء، يبقى حضورهن في القوى العاملة محدودًا. ولا يعود ذلك لنقص الوظائف فحسب، بل لتفاعل الأعراف الاجتماعية مع طبيعة القوانين وضعف قدرة القطاع الخاص على استيعاب الكفاءات النسائية. وتميل كثير من المتعلمات إلى تفضيل الوظائف الحكومية باعتبارها أكثر استقرارًا وأمنًا، ما يُبقي القطاع الخاص أقل جذبًا للمهارات الجديدة وأبطأ في تبنّي بيئات عمل مرنة.
مكاسب اقتصادية مهدورة
يقدّر التقرير أن زيادة مشاركة الأردنيات قد ترفع دخل الفرد بما بين 20% و30%—من أعلى الإمكانات في المنطقة—في وقت يواجه فيه الأردن ضغطًا ديموغرافيًا متسارعًا وتباطؤًا في خلق فرص العمل. وبينما يتزايد الداخلون إلى سنّ العمل، يظل توليد الوظائف أقل من المطلوب، ما يجعل الاستثمار في الطاقة النسائية شرطًا لاستدامة النمو.
قيود قانونية واجتماعية «صامتة»
يرصد البنك الدولي استمرار قناعات اجتماعية تحصر دور المرأة في الشأن المنزلي حتى بين الفئات المتعلّمة، مع وجود ثغرات في تشريعات المساواة في الأجور والحماية من التمييز والتحرّش، إضافة إلى قصور في النقل العام وارتفاع تكلفة رعاية الأطفال. هذه العوامل أنتجت ما يشبه حلقة المشاركة المنخفضة: ضعف الحضور النسائي يقلل الطلب عليهن، ويعيد إنتاج الصور النمطية حول أدوارهن الاقتصادية.
مقارنة إقليمية: تسارع سعودي وتباطؤ أردني
يعرض التقرير تجربة السعودية كنموذج للتحوّل السريع، إذ ارتفعت مشاركة النساء من نحو 20% إلى 34% خلال عقد واحد عبر إصلاحات قانونية ومبادرات لبيئات عمل آمنة ومرنة. وفي المقابل، لم تواكب السياسات في الأردن والمغرب ومصر التحولات التعليمية والاجتماعية، فازدادت فجوة التعليم والعمل اتساعًا.
«الإصلاح الجزئي لا يكفي»
يؤكد البنك أن “الإصلاح الجزئي لا يكفي”، وأن معالجة الفجوة تتطلب حزمة متماسكة تجمع السياسات الاقتصادية وسوق العمل والتشريعات الاجتماعية والمؤسسات التعليمية والمالية. ويورد نص التقرير الحاجة إلى “مقاربة كلية متناسقة تشمل السياسات الاقتصادية، وسوق العمل، والتشريعات الاجتماعية، والمؤسسات التعليمية والمالية”.
- العدالة في الأجور: المدخل الأول لرفع المشاركة؛ إذ ما تزال فجوات الأجور قائمة حتى في الوظائف المتخصّصة. يدعو التقرير إلى إنفاذ قوانين الأجر المتساوي للعمل المتساوي القيمة وتعزيز الرقابة في القطاعين العام والخاص لاستعادة ثقة النساء بالبيئة الاقتصادية.
- النقل العام: أحد أهم العوائق المادية؛ محدودية الشبكات وكلفتها ومخاوف السلامة تستبعد آلاف النساء من وظائف خارج نطاق أحيائهن. ويوصي التقرير باستثمارات في نقل آمن وميسور بوصفه سياسة تشغيلية ذات أثر مباشر على الناتج، بما في ذلك حلول النقل الذكي والمستدام.
- العمل المرن: يدعو إلى توسيع العمل الجزئي والعمل عن بُعد وساعات مرنة توازن بين الأسرة والعمل؛ وتُظهر تجارب خليجية أن تبنّي المرونة زاد المشاركة النسائية 5–8 نقاط مئوية خلال ثلاث سنوات.
- رعاية الأطفال: يعدّها التقرير حقًا اجتماعيًا ومكوّنًا أساسيًا لبيئة عمل منتجة. ويوصي بتوسيع دعم مراكز الرعاية وتقديم حوافز ضريبية للشركات التي تؤمّن حضانات للعاملات—إجراء أثبت فعاليته إقليميًا في تقليص انسحاب النساء بعد الإنجاب.
يختم التقرير هذا المحور بالتشديد على أن “الإصلاح الجزئي لا يكفي”؛ فالفجوة ليست نتيجة نقص مؤهلات، بل غياب بيئة اقتصادية واجتماعية قادرة على استيعاب الكفاءات النسائية وإطلاق إمكاناتها.
مفترق طرق
يرى البنك الدولي أن الأردن يقف أمام خيارين: الاستمرار في استنزاف نصف طاقته الإنتاجية، أو جعل تمكين النساء الرافعة المركزية لاقتصاده القادم. وجاء في نص التقرير حرفيًا: “المنطقة لم تعد قادرة على تحمّل كلفة ترك نصف مواهبها خارج سوق العمل.”